نصّ الفصل 132 من دستور 2014 للجمهوريّة التّونسيّة على أنّ الجماعات المحليّة تتمتّع بالشّخصيّة القانونيّة، وبالاستقلاليّة الإداريّة والماليّة، وتدير المصالح المحليّة وفقا لمبدأ التّدبير الحرّ. وهو يترجم نيّة المشرّع في القطع مع التّمشي الذي كان سائدا في التّعاطي مع الجماعات المحليّة قبل صدور دستور 2014 والذي كان يفرض نوعا من الوصاية الإداريّة على الجماعات المحليّة من قبل الإدارة المركزيّة. وذلك بفرض رقابة مكثّفة على أعمالها تنقسم إلى رقابة قبليّة على مصاريفها ورقابة بعديّة خاصّة على حساباتها وميزانيتها وتتعلّق بشرعيّة أو جدوى القرارات الصّادرة عن الجماعات المحليّة.
وقد كنّا تعرّضنا في مقال سابق الى مفهوم الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة ومدى تنزيله على أرض الواقع. وسنهتمّ في هذا المقال بتفسير مبدأ التّدبير الحرّ وتبعاته بخصوص تمويل ميزانيّة الجماعات المحليّة.
لقد تمّ تكريس هذا المبدأ الدّستوريّ على مستوى مجلّة الجماعات المحليّة إذ ورد مبدأ التّدبير الحرّ بعدّة فصول من المجلّة.
فما هو المقصود بالتّدبير الحرّ؟
وهل التّدبير الحرّ يشمل، على حدّ السّواء، الموارد والنّفقات؟
وهل ترك المشرّع هامش حريّة وتصرّف للبلديات في ضبط مواردها تطبيقا للمبدأ المذكور؟
سيتناول هذا المقال دراسة كلّ هذه الجوانب بهدف الإجابة على السّؤال الذي عادة ما يطرح كلّما تكلّمنا على تعبئة موارد البلديات بهدف تحسين خدماتها.
قبل الخوض في مسألة حريّة ضبط موارد الميزانيّة من قبل المجالس البلديّة المنتخبة وجب تعريف بعض المفاهيم منها:
– التّدبير الحرّ.
– الموارد الذّاتية.
– الموارد الجبائيّة.
I. التّدبير الحرّ |
لم يتم تعريف مفهوم التّدبير الحرّ بالرّغم من دسترة هذا المبدأ. كما أنّ مجلّة الجماعات المحليّة لم تتضمن أيّ تعريف للمفهوم المذكور. وإنّما اكتفت بالتّأكيد على كونه يمثّل ركيزة أساسيّة لإنجاح اللاّمركزيّة. وهو بالتّالي اعتراف للجماعة المحليّة بالحقّ في إدارة شؤونها وتدبير صلاحياتها بشكل حرّ ومباشر والتّخلي نهائيّا على كلّ أشكال الوصاية على البلديات ومظاهر الرّقابة الإداريّة على أعمالها. وهو يشمل حريّة التّعاقد وحريّة التّصرف في الموظّفين وحرّية اتخّاذ القرارات وحريّة تنظيم وتسيير الهياكل وحريّة الإنفاق وحريّة التّصرّف في الأملاك وتسيير المرافق. ويشكّل بالتّالي أحد الضمانات الدّستورية لاستقلاليّة الجماعات المحليّة.
وفي هذا الإطار أقرت مجلّة الجماعات المحليّة بمقتضى الفصل 4 أنّ “كلّ جماعة محليّة تدير المصالح المحليّة وفق مبدأ التّدبير الحرّ طبقا لأحكام الدّستور والقانون مع احترام مقتضيات وحدة الدّولة”.
1) مفهوم التّدبير الحرّ
بناء على ما تمّ ذكره وعلى غياب أي تعريف قانوني، يمكن تعريف التّدبير الحرّ بأنّه مبدأ دستوريّ يرتكز عليه النّظام اللاّمركزي ويقصد به إعطاء الجماعات المحليّة حريّة إدارة شؤونها دون الخضوع لتعليمات السّلطة المركزيّة شريطة تقييد الجماعات المعنيّة في اتّخاذ قراراتها باحترام التّشريع التّونسي الجاري به العمل ومتطلّبات وحدة الدّولة.
2) أصل عبارة التّدبير الحرّ
من خلال دراسة القانون المقارن يتضح أنّ عبارة التّدبير الحرّ الواردة بالتّشريع التّونسي مستعارة من التّشريع المغربي الذي انتهج منذ بداية الثّمانينات تمشي اللاّمركزية مقابل تراجع الدّولة أي السلطة المركزية على المستوى الوطني وذلك في إطار وحداتها التّرابيّة بكل أشكالها.1 عبارة “الترابي” واردة بالتشريع المغربي والفرنسي ويعادلها “محلي” في التشريع التونسي وقد تمّ إقرار ذلك في الدّستور المغربي لسنة 2011 على مستوى الفصل 136 وكذلك القوانين التّنظيميّة المرتبطة بالجماعات التّرابيّة ممّا انعكس إيجابيّا على مستوى الوحدات التّرابيّة ليجعل منها نموذجا فاعلا حقيقيّا للدّيمقراطيّة المحليّة وأساسي قادر على وضع تصوّرات لمشاريع محليّة تلبّي حاجيات متساكنيها والقدرة على تنفيذ هذه البرامج وتتبّعها وتقييمها.
ومنذ ذلك التّاريخ أصبح قاموس القانون العام المغربي يتضمن مبدأ التّدبير الحرّ. فبالنّسبة لخبراء القانون العام يعتبر مجرد الاعتراف بدستوريّة هذا المبدأ الكوني نجاحا كبيرا وخطوة جريئة في اتّجاه تعميق الدّيمقراطيّة المحليّة.
وبالنّسبة إلى التّشريع الفرنسي فقد تضمّن الباب الثّاني عشر من دستورها لسنة 1958 المخصّص للجماعات الترّابية مبدأ التّدبير الحرّ الذي يجعل من اللاّمركزية والدّيمقراطيّة المحليّة قاطرتان أساسيتان لتحقيق التّنمية التّرابيّة.
3) متطلبات التّدبير الحرّ
يعني التّدبير الحر أنّ المجالس المحليّة لها كامل الصّلاحية والحرّية في تحديد وبلورة اختياراتها وبرامجها، في احترام تام للمقتضيات القانونيّة والتّنظيميّة ومراعاة الإمكانيات الماديّة والبشريّة المتاحة.
وبالتّالي فإنّه لا يمكن الحديث عن مبدأ التّدبير الحرّ في غياب 3 شروط أساسيّة مجمّعة وهي الشّخصيّة القانونيّة والاستقلاليّة الماليّة (ا) وصلاحيات فعلية للجماعات(ب) ورقابة لاحقة (ج).
– أ – فبالنّسبة إلى الشّخصيّة القانونيّة والاستقلاليّة الماليّة تتمتّع الجماعات المحليّة طبقا للفصل 132 من الدّستور بالشّخصيّة القانونيّة ممّا من شأنه أن يجعل منها كيانا قانونيّا خاصّا مستقلاّ عن الدّولة على جميع المستويات الاداريّة والقانونيّة والماليّة. وهي القدرة على تحمّل الواجبات والتّمتع بالحقوق وممارستها. وتتعزّز استقلاليّة الجماعات المحليّة حسب نفس الفصل 132 بحق تسيير شؤونها وفقا لمبدأ التّدبير الحرّ أي بإلغاء مفهوم الوصاية على عمل الجماعات المحليّة وكلّ أشكال الرّقابة القبليّة المتعلّقة باختياراتها. ونتيجة لذلك فقد تمّ منح الجماعات المحليّة القدرة على ممارسة كلّ التّصرفات القانونيّة، وإدارة شؤونها المحليّة باستقلاليّة عن الدّولة والتّصرف في ميزانيّة خاصّة بها منفصلة عن الميزانيّة العامة للدّولة.
– ب – وبالنّسبة إلى منح السّلطات المحليّة صلاحيات فعليّة فإنّ ذلك يعدّ ضمانة لإنجاح مسار اللاّمركزية في بلادنا. إذ لن يتحقّق هذا المسار دون منح الجماعات المحليّة صلاحيات فعليّة. وقد حدّد دستور 2014 توزيع الصّلاحيات والموارد وفقا لمبدأي التّفريع والتّناسب. فما المقصود بالتّفريع والتّناسب؟
مــبدأ التّــــفريع
ظهر مبدأ التّفريع بفرنسا بقانون 7 جانفي سنة 1983 المتعلّق بتوزيع الاختصاصات بين الجماعات والمحافظات والجهات والدّولة، (قانون Gaston Defferre, instigateur de la loi du 2 mars 1982 sur la décentralisation) والذي يتّم عن طريق الدّستور وعن طريق القانون بموجب مبادئ اللاّمركزيّة السّياسيّة ومبدأ التّفريع. ويمكن القول إنّ مبدأ التّفريع هو مبدأ مستلهم من الميثاق الأوروبي للحكم الذّاتي المحلّي، منصوص عليه بالقانون الوضعي التّونسيّ بموجب الفصل 134 من الدّستور والفصل 15 من مجلّة الجماعات المحليّة. ويقرّ لهذه الجماعات ممارسة ثلاثة أصناف من الصّلاحيات:
– صلاحيّاتٌ ذاتيّة.
– صلاحيّات مشتركة مع السّلطة المركزيّة.
– صلاحيّات منقولة منها.
ويطبق مبدأ التّفريع على الصّلاحيات المشتركة والصّلاحيات المنقولة فقط ويمكن من إسناد الصّلاحيات إلى الجماعة المحلية الأقرب من المواطن والأقدر على ممارسة هذه الصّلاحيات على جميع المستويات التّقنية والماديّة والبشريّة. وقد يتعيّن إسناد الصّلاحيات إلى المستوى الأعلى إذا كان الأقدر على ممارستها، حتّى وإن كان هذا المستوى متمثّلا في السّلطة المركزيّة.
مـــبدأ التــّــناسب
بناء على مبدأ التّفريع، حدّد الفصل 135 مبدأ التناسب بين الصلاحيّات والموارد إذ أشار إلى أن هذه الموارد تكون ملائمة للصّلاحيات المسندة إليها قانونا. وبالتّالي يكون كل إحداث لصلاحيات أو نقل لها من السّلطة المركزيّة إلى الجماعات المحليّة مقترنا بما يناسبه من موارد.
وأضاف الفصل نفسه إنّ التّعهد بهذه الصّلاحيات يستوجب توفّر موارد ماليّة تكون في شكل موارد ذاتيّة، وموارد محالة إليها من السّلطة المركزيّة. ويمكن القول إنّ مبدأ التّفريع ومبدأ التّناسب يمكن أن يتعثّرا وذلك لصعوبة تفعيلهما مما من شأنه أن يتسبب في نتائج عكسية تؤول إلى إسناد أهمّ الاختصاصات إلى الادارة المركزيّة على حساب الإدارة اللاّمركزيّة باعتبار افتقار هذه الأخيرة للقدرات الماليّة والبشريّة والفنيّة الضّرورية لإسنادها هذه الاختصاصات.
– ج – الرّقابة اللاّحقة: تخضع الجماعات المحليّة لرقابة لاحقة بمقتضى الفصل 138 من الدّستور وذلك خلافا للوضع السّابق الذي كانت تتميّز فيه الرّقابة بصبغتها السّابقة (أو القبلية) واللاّحقة بناء على القانون الأسّاسي المؤرّخ في 14 ماي 1975 المتعلّق بالبلديات والقانون الأساسي المؤرخ في 1989 والمتعلّق بالمجالس الجهويّة حيث تقوم السّلطات المركزيّة برقابة إشراف مشدّدة على الجماعات المحليّة.
فقد كانت الرّقابة تشمل مجمل القرارات بما فيها القرارات ذات الصّبغة المالية وهي رقابة سابقة ولاحقة من قبل الوالي لأسباب تتعلّق بشرعيّة أو جدوى القرارات الصادرة عن الجماعات المحلية إلاّ أنّ دستور 2014 نص على حذف هذه الرّقابة. إذ تّم حصرها في رقابة قضائيّة لاحقة وتمّ تكريس ذلك على مستوى الفصل 164 من مجلّة الجماعات المحليّة الذي نص صراحة على أنّه” لا يخضع التّعهد بالصّرف لتأشيرة مصالح مراقبة المصاريف العموميّة أو أي تراخيص أخرى”.
وقد حدّد الفصل 138 من الدّستور طبيعة الرّقابة التي تخضع لها الجماعات المحليّة فيما يتعلّق بشرعيّة أعمالها والتي يقوم بها القاضي الإداريّ دون سواه.
II. الموارد الذّاتيّة |
من البديهي أن نجاح تجربة اللاّمركزية في تونس يبقى رهين عوامل مختلفة أهمّها الموارد الماليّة الموضوعة على ذمّة الجماعات المحليّة.
وفي هذا الإطار نصّ الفصل 8 من مجلّة الجماعات المحليّة على أنّ السّلطة المركزيّة تعمل على تعزيز الموارد الذّاتيّة للجماعات المحليّة مما يضمن تكافؤ الموارد والأعباء وأنّه يمكن إبرام اتّفاقيات بين السّلطة المركزيّة والجماعات المحليّة لتدعيم الموارد الماليّة والبشريّة للجماعات المحليّة بما من شأنه أن يدعم استقلاليتها الإداريّة والماليّة. ولكن ما المقصود بعبارة “الموارد الذّاتيّة “؟
لم يتضمن الدّستور أي تعريف لهذه العبارة وإنّما تمّ الاكتفاء بحصر الموارد التي يمكن اعتبارها ذاتيّة بمقتضى الفصل 132 من مجلّة الجماعات المحليّة في:
• محصول الأداءات المحليّة التي يضبط نظامها القانون طبقا للفصل 65 من الدّستور،
• محصول أو جزء من محصول الأداءات والمساهمات الذي تحيله القوانين للجماعات المحليّة بما في ذلك المساهمات بعنوان الأعباء التي يستوجببها التّعمير التي يقرّها القانون.
• مناب الجماعة المحليّة من محصول الأداءات التي تتقاسمها الدّولة مع الجماعات المحليّة باستثناء الموارد الموظفّة.
• محصول الخطايا والصلح بعنوان المخالفات للقانون والترّاتيب.
• محصول المعاليم والرّسوم ومساهمات الأجوار ومختلف الحقوق بعنوان الخدمات والاستغلال والتّراخيص التي تقرّها مجالس الجماعات المحليّة.
• محصول الموارد غير الجبائية المختلفة.
• منابات الجماعات المحلّية بعنوان التّسوية والتّعديل والتّضامن.
• مناب الجماعة المحلية فيما تتمتّع به المنشآت المحليّة من المحاصيل المذكورة أعلاه.
• الهبات غير المخصّصة المصادق عليها من قبل مجلس الجماعة المحلية في نطاق ما يقتضيه القانون.
وبالتّالي يمكن القول إنّ الموارد الذّاتيّة تتكوّن من الموارد الدّائمة للجماعات المحلية ولا تشمل الموارد الوقتية أو خارجيّة كالقروض والإعانات علما وأن الجماعات المحلية تتمتّع، طبقا للفصل 126 من المجلّة، بحريّة التّصرف في مواردها وتتقيّد بمبدأ الشّرعية الماليّة وقاعدة التّوازن الحقيقيّ للميزانيّة.
وطبقا للفصل 128 من المجلّة نفسها، تخصّص موارد الجماعات المحليّة لتسديد النّفقات التي تستوجبها إدارة الشّؤون المحليّة ومصلحة الجماعة المحلية المعنية ولا يمكن تحميل الجماعات المحلية نفقات محمولة على كاهل الدّولة أو المؤسّسات العموميّة التّابعة لها إلا في الحالات الاستثنائية والطارئة التي يضبطها القانون على أن يتم استرجاع التكاليف المترتبة عن ذلك.
III. الموارد الجبائية |
تشكّل الموارد الجبائيّة مصدرا أساسيّا من مصادر تمويل ميزانيّة الجماعات المحلية. وبالتّالي تسعى كلّ جماعة محليّة الى تنمية مواردها الجبائية بالقدر الذي يكفل لها تسيير شؤونها دون تبعيّة للسّلطة المركزيّة.
وتجدر الاشارة الى أنّ أهمّ إشكال يعترض تركيز اللاّمركزيّة في تونس يتمثّل في ضعف الموارد الجبائية ممّا جعل من التّبعيّة الماليّة للجماعات المحليّة تجاه الدّولة معطى ثابت منذ الاستقلال إلى الآن. وقد زادت الأمور تعقيدا بعد الثّورة، إذ كانت البلديات في مواجهة تصاعد المطلبيّة الاجتماعيّة وما رافقها من تزايد نفقات التّأجير مع تراجع المداخيل الجبائيّة جراء العفو الجبائي المتكرّر وذلك في ظل عجز البلديات على تعبئة كلّ مواردها الجبائيّة وتطوير رصيدها العقاري وعدم منحها إمكانيّة إحداث موارد جديدة لمجابهة العجز.
فهل يكون حلّ الصّعوبات الماليّة للبلديات في تمكينها من هامش حريّة في ضبط مواردها الجبائيّة أو في حوكمة نفقاتها على حساب استقلاليتها الماليّة؟ سؤال سنحاول الإجابة عنه في مقال خاص.
عائشة قرافي
حرم الحصني
مستشارة اختصاص حوكمة ومكافحة الفساد