الإطار المنظّم للزمة أسواق الجماعات المحليّة
تمثّل المعاليم التي تستخلصها الجماعات المحليّة من عقود لزمات التّصرف في أملاكها وإشغالها أو إسداء مرافقها العموميّة، موارد أساسيّة قارّة لتمويل ميزانيتها. وتتعدّد اللّزمات بتنوّع الخدمات التي تسديها الجماعة المحليّة عبر تفويض التّصرّف فيها عادة إلى ذوات خاصّة بواسطة عقود إداريّة تعرف بعقود لزمة مرفق عمومي. ويمثّل إبرام مثل هذه العقود تتويجا لمسار طويل ومعقّد يبتدئ من الإعداد الماديّ والفنّي لطلب العروض العموميّة وصولا إلى فرزها وإعلان نتائجها والشّروع في تنفيذها في كنف الاحترام التّام لمبادئ المنافسة والنّزاهة والشّفافيّة والنّجاعة.
وتتنوّع أساليب تسيير الأملاك والمرافق العموميّة للجماعات المحلية وصيغها. إذ يمكن للجماعة المحليّة اعتماد الطّرق المباشرة بواسطة أعوان البلدية أو باعتماد نظام الوكالة أو الطّرق غير المباشرة بالتعاقد مع مستلزمين أو مفوّضين. ويخضع اختيار إحدى هذه الطرق لمداولات مجالس الجماعات المحليّة التي تستند في ذلك إلى معايير نجاعة الخدمات المسداة للعموم وجودتها وأهميّة الموارد التي تحصل عليها مقابل ذلك.
ولأهميّة اللّزمات في تمويل النّشاط البلدي، يتطلّب الأمر في البداية، الإحاطة بإيجاز بالنّظام القانوني للزمة الأسواق البلديّة في النّقاط التّالية:
I – تعريف لزمة مرفق عمومي
يعرّف المشرّع التّونسي”اللّزمة” في الفصل 83 من مجلّة الجماعات المحلية[1] تماما كما عرّفها القانون الفرنسي[2] بكونها «العقد الذي تفوّض بمقتضاه الجماعة المحليّة بوصفها شخصا عموميّا، يسمى مانح اللّزمة لمدّة محدّدة، إلى شخص عمومي أو خاص يسمى صاحب اللّزمة، التّصرّف في مرفق عمومي أو استعمال أو استغلال أملاك أو معدّات أو تجهيزات أو استخلاص معاليم راجعة للجماعة المحليّة بمقابلٍ يستخلص لفائدته من المستعملين حسب الشّروط التي يتم ضبطها في عقد اللّزمة. ويمكن أن يكلّف صاحب اللّزمة أيضا بإنجاز أو تغيير أو توسيع بنايات ومنشآت يضبطها عقد اللّزمة”.
ولكن نلاحظ أنّ النّصّ الفرنسيّ ورد بصياغة أدقّ حين ركّز على عنصر المخاطر والخسارة التي يتحمّلها صاحب اللّزمة أو المستلزم دون تضامن مع مانح اللّزمة عند إدارته لنشاط اللّزمة واستغلال مداخيلها. وفي الواقع، يقتضي عنصر “المخاطر والخسارة” من جهة أنّ صاحب اللّزمة يتحمّل منفردا الخسارة النّاشئة عن تقلّبات السّوق حين لا يتمكّن مثلا في الظّروف العادية من تغطية كلفة استثماراته ومصاريف استغلاله للمرفق العمومي من المداخيل التي يحصل عليها من معاليم الخدمة التي يدفعها عموم مستعملي هذا المرفق.
كما يقتضي من جهة أخرى، أنّ “مانح اللّزمة” يقبِض مبلغ اللّزمة ولا يتحمّل الخسارة التي يعارض بها صاحب اللّزمة في غير صورة القوّة القاهرة والأمر الطّارئ كحالة الحرب أو الاضطرابات أو الكوارث الطبيعيّة أو الجوائح الصّحيّة وغيرها. وقد ذهب فقه القضاء الإداري إلى أنّ المخاطر الاقتصاديّة والخسائر الماديّة التي يثيرها صاحب عقد لزمة المرفق العمومي يجب أن تكون محقّقة وليست مبنية على مجرّد تقلبّات السّوق الهامشيّة.
وتدير البلديّة عادة الأسواق اليوميّة والأسبوعيّة وحتّى الظّرفيّة كأسواق الخضر والغلال والمواد المنزليّة والأثواب القديمة وأسواق منتجات الصّيد البحري وأسواق الدّواب والمسالخ طبقا لنظام اللّزمة الذي ضبطته مجلّة الجباية المحليّة والأمر الحكومي عدد805 لسنة2018 المؤرخ في 13 جوان 2016 وحدّدت تعريفة المعاليم المرخّص للجماعة المحليّة في استخلاصها.
ويخضع منح عقد اللّزمة للقواعد العامة لنظام اللّزمات الذي ضبطه القانون عدد23 لسنة 2008 المؤرخ في غرة افريل2008 المتعلّق بنظام اللّزمات كما تمّ تنقيحه وإتمامه بمقتضى أحكام الفصلين 24 و25 من القانون عدد47 لسنة2019 المؤرّخ في 29 ماي2019 المتعلّق بتحسين مناخ الاستثمار.
كما يخضع أيضا لأحكام مجلّة الجماعات المحليّة التي أسند فيها المشرّع في الفقرة الثّانية من الفصل 84 لمجالس الجماعات المحليّة اختصاص التّداول في عقود اللّزمات ومدّتها وجوانبها الماليّة وإقرارها بعد اللّجوء إلى المنافسة والتّقيّد بقواعد الشّفافيّة.
ونظرا لكون اللّزمة عقد، فقد حدّد القانون طرفيه وضبط حقوقهما والتزاماتهما كما ضبط موضوعه وصيغ وإجراءات إبرامه وتنفيذه.
II – التزامات طرفي العقد
تمثّل الجماعة المحليّة الطّرف الأول في العقد باعتبارها مانح اللّزمة. تعقد اللّزمة باسمها وتكون مسؤولة على جميع أفعالها المخلّة بالتزاماتها التّعاقديّة أمام القضاء. ويتمتع مانح اللّزمة فضلا عن الحقوق المضمّنة بالعقد، بجملة أخرى من الامتيازات التي تقتضيها طبيعة العقود الإداريّة وطبيعة التّصرّف في المال العام. إذ يتمتع مانح اللّزمة بسلطة فرض بنود استثنائيّة بالعقد، تمكّنه من ممارسة الرّقابة على نشاط المستلزم بصفة دائمة ومنتظمة. وتشمل هذه البنود جميع الجوانب الفنيّة والماليّة للخدمات المسداة للعموم كالرّقابة على جودتها وشروطها الصّحية والبيئيّة. كما تمكّنه من مراقبة مدى احترامه لتعريفات معاليم إسداء الخدمات التي يدفعها العموم. وفي المقابل، يضمن مانح اللّزمة ممثّلا في الجماعة المحليّة لمعاقده جميع الظّروف الملائمة التي تساعده على ممارسة نشاطه في أفضل الظّروف بموجب عقد اللّزمة.
أمّا الطّرف الثّاني في العقد، فهو صاحب اللّزمة أو المستلزم. و يكون ذات معنويّة أو طبيعية تنوي الاستثمار في مجال استلزام الأسواق دون أن يكون لها مانع قانونيّ لممارسة هذا النّشاط. لذلك يشترط القانون أن يكون صاحب اللّزمة سواء أكان شخصا طبيعيّا أم ممثلا قانونيّا لذات معنوية نقيّا من السّوابق العدليّة. فقد منع المشرّع من ممارسة هذا النّشاط، كلّ شخص صدر في شأنه حكم بات يقضي بسجنه لمدّة تفوق ستّة أشهر مع النّفاذ باستثناء الأشخاص المحكوم عليهم من أجل جنحة غير قصديّة إن لم تكن متبوعة بفرار. كما منع المشرّع من ذلك كلّ شخص موضوع تتبّع قضائي من أجل التّفليس أو كلّ شخص تعلّقت به إجراءات إنقاذ المؤسّسات التي تمرّ بصعوبات اقتصاديّة. كما اشترط القانون أن يستظهر كلّ شخص فاز بعرض اللّزمة بما يفيد تسوية وضعيته الجبائيّة تجاه الدّولة وتجاه الجماعات المحليّة. كما منع المشرّع كلّ رؤساء وأعضاء المجالس وأعوان الجماعات المحليّة ومحاسب الجماعة المحليّة وكلّ حالات تضارب المصالح حسب التّشريع الجاري به العمل.
ويتمتّع المستلزم من جهة، بمجموعة من الحقوق الواردة ببنود العقد كحقّه في التّمتع بالمرابيح التي يدرّها عليه النّشاط المرفقي مهما كثرت. ولكنّه في المقابل، يتحمّل لوحده المخاطر والخسائر التي تنجرّ عن تنفيذ العقد إلاّ في صور القوّة القاهرة والأمر الطّارئ التي تضبط القواعد العامّة للقانون وبنود العقد أيضا سبل تقاسمها بين طرفي العقد.
ويلتزم المستلزم باحترام بنود العقد وما يقتضيه النّشاط المتعلّق بإدارة مرفق عمومي كاحترام معايير الجودة ومعايير السّلامة والصّحة ومقتضيات البيئة السليمة. كما يلتزم المستلزم بالمحافظة على البنايات والمنشآت والتّجهيزات الموجودة بالسّوق وأن يسلّمها في نهاية العقد على الحالة التي كانت عليها عند استلامها. ويلتزم بتأمين مسؤوليته المدنيّة عن جميع الأضرار التي تلحق أشغال صيانة منشآت السّوق التي يعتزم القيام بها أو توسعتها بعد موافقة الإدارة لمزيد جدوى نشاطه. كما يلتزم أيضا بتأمين مسؤوليته الشخصية عن استغلال البنايات والمنشآت المدرجة في عقد اللزمة. كما يقتضي القانون أن يكون تنفيذ عقد اللّزمة بصفة شخصيّة من المستلزم إلاّ إذا وافقت الجماعة المحليّة على إمكانيّة إحالته إلى شخص آخر طبيعي أو معنوي ، دون أن يؤدي ذلك إلى تفصّي المستلزم الأصلي من مسؤولياته الماديّة والماليّة بصفة شخصيّة. وفي هذه الحالة، يجب أن يستظهر المستلزم الثّاني بشهادة إبراء من جميع الدّيون المستوجبة لفائدة الدّولة والجماعات المحليّة.
وخوّل القانون للمستلزم أيضا طلب فسخ العقد إداريّا أو قضائيّا في جميع الصّور التي لا تحترم فيها البلديّة التزاماتها التّعاقديّة ممّا ينشأ عنه خسارة للمستلزم لا يمكن تداركها.
III – صيغ إبرام عقد اللّزمة وإجراءاته
أسند المشرّع في الفصل 67 من النّظام النّموذجي للمجالس البلدية[3]، اختصاص إدارة لزمات الأسواق البلديّة ومتابعة التّصرف فيها واستخلاص المعاليم الموظّفة عليها إلى لجنة الشّؤون الماليّة والاقتصاديّة بالجماعة المحليّة. كما منح المجلس البلدي إمكانيّة إحداث لجنة غير قارّة يسند إليها مهمّة الإشراف على إجراءات عملية استخلاص معاليم الأسواق البلديّة طبقا للفصل 210 من مجلّة الجماعات المحليّة.
وتقوم هذه اللّجنة بإعداد جميع الأعمال المتعلّقة بإنجاز اللّزمة الإداريّة منها والفنيّة من الإعلان عنها للعموم إلى إبرامها وتنفيذها بدءا بإعداد كرّاس الشّروط وضبط موضوع اللّزمة وتحديد السّعر الافتتاحي للزمة السّوق وتحديد الضّمانات المالية الوقتيّة والنّهائية كتأمين مبلغ 10% من السّعر الافتتاحي وتأمين الفائز باللّزمة لربع (25%) الثّمن النّهائي للزمة. ولا يمكن إرجاع الثّمن النّهائي إلا بعد نهاية العقد والتأكّد من أن المستلزم في حلّ من كل التزام تجاه الجماعة المحليّة. كما يمكن لها تحديد ضمانات أخرى وتحديد مقاديرها. ومن بينها ضمان بعنوان حسن تنفيذ اللّزمة يخصّص لتغطية نفقات الكهرباء والماء وصيانة الأضرار النّاجمة عن إهمال المستلزم وغيرها وفرض ضمان بعنوان تسجيل عقد اللّزمة كما حددّه الفصل 20 من مجلة معاليم التّسجيل والطّابع الجبائي بـ0,5% من قيمة اللّزمة والقيام بدفع كلّ المعاليم والأداءات في ظرف 72 ساعة من الإعلان عن نتائج اللّزمة. أما بالنّسبة إلى الأسوق الظّرفيّة، فتقتضي طبيعية اللّزمة، التّنصيص في كرّاس الشّروط على دفع كامل مبلغ اللّزمة قبل مباشرة عملية الاستغلال.
وبهدف حماية المال العام، يمكن للجنة إعداد كرّاس الشّروط أن تشترط مختلف أنواع الضّمان المعمول بها كالضّمانات العينيّة والعقاريّة والضمانات الشّخصيّة كالضمانات البنكيّة المتوفّرة بالمنظومة البنكيّة.
وتحدد اللّجنة مدّة اللزّمة بناء على مداولة المجلس البلدي. وقد جرى العمل باستلزام الأسواق البلديّة لمدّة سنة واحدة تمتدّ على مدى السّنة الإداريّة. ولكن يمكن للمجلس البلدي أن يحدّد مدّة استلزام تفوق السّنة، على أن لا تتجاوز خمس سنوات في أقصى الحالات إذا رأت البلدية أنّ ذلك سوف يدعم مبدأ المنافسة ويحفّز المستلزمين على تقديم أفضل الأسعارـ أو إذا رأت أن هذه المدّة الأطول سوف تضمن استمراريّة المرفق العمومي المحلي وتوفّر مداخيل قارّة ومنتظمة للبلديّة تساعدها على تغطية نفقات التّصرّف أو الاستثمار.
وعندما يقرّر المجلس البلدي استلزام الأسواق البلديّة لمدة تتجاوز سنة، فإنّه يضبط زيادة سنويّة للمبلغ السّنوي للزمة بنسبة 10 %. وتحتسب على قاعدة آخر مبلغ سنويّ مستحق كحد أدنى، كما تقر المراجعة الآليّة لمبالغ الضّمان النّهائي المستوجب بداية من كلّ سنة على ضوء مبلغ اللّزمة المحيّن بعد تطبيق نسبة الزّيادة السّنويّة والتّنصيص على ذلك في كرّاس الشّروط مع تحيين مبلغ الضّمان.
أمّا في خصوص طرق الاستلزام، فيمكن للجماعة المحليّة أن تعتمد مختلف الصّيغ التي ضبطها المشرّع. وهي ثلاثة:
• أوّلا، طلب عروض متبوع بمزايدة البتّة،
• ثانيا، استلزام باعتماد طلب عروض متبوع بتقييم “ظروف مغلقة”،
• ثالثا، التّفاوض باعتماد صيغة التّفاوض المباشر “المراكنة”، إذا تبيّن أن إعلان طلب العروض السّابق كان غير مثمر وكانت الأثمان المقترحة من قبل المترشّحين أقلّ من الثمّن الافتتاحي المقترح بموجب إعلان طلب عروض وكرّاس الشّروط.
ويختصّ المجلس البلدي طبقا للفقرة الثّانية من الفصل 84 من مجلّة الجماعات المحلية” بالتّداول في عقود اللّزمات ومدّتها وجوانبها الماليّة وإقرارها بعد اللّجوء إلى المنافسة والتّقيّد بقواعد الشّفافيّة”. وبمقتضى هذا النّصّ فإنّ المجلس البلديّ هو الجهة التي يخوّل لها القانون منح لزمة السّوق البلدي للمترشّح الفائز بها مهما كانت طريقة الاستلزام المعتمدة.
كما يتمتّع المجلس البلدي بحقّ عدم قبول عرض الثّمن الأعلى إذا كان أقل من السّعر الافتتاحي أو إذا كان مشطّا وغير جدي والإعلان للعموم بأنّ العرض غير مثمر. حينئذ يتوجّب على المجلس البلدي التّوجه للعموم بطلب عروض ثان وإعادة إجراء اللّزمة. كما يختصّ المجلس البلدي من جهة أخرى، بالنّظر في حالة الطّعون التي تستهدف نتائج اللّزمة وإجراءاتها. ويختصّ أيضا بالنّظر في حالات نكول الفائز بالبتّة ومآلاتها.
ومهما كانت الطّريقة المعتمدة في استلزام السّوق، فإنّ المشرّع ألزم مانح اللّزمة بضرورة احترام المبادئ الأساسيّة كالمساواة بين المترشّحين وشفافيّة الإجراءات وضمان مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص ومبدأ الحياد والنّزاهة في تسيير مختلف مراحل عملية التّبتيت.
[1] مجلة الجماعات المحلية. المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية. 2020.
[2]الفصل ل.1-1121 من قانون الطلبية العمومية الصادر في آخر تعديل بتاريخ 26 سبتمبر2021
[3] نص النظام النموذجي للمجالس البلدية المصادق عليه بأمر حكومي عدد744 لسنة2018 مؤرخ في 23 اوت 2018. منشور ضمن ملاحق مجلة الجماعات المحلية. المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية. 2020. ص.157-186
د. الناصر المكني
1 Comment
مقال ممتاز للأستاذ الناصر المكني