مساهمة المالكين الأجوار عنوان الشّعوب المتحضّرة
يخطئ متساكنو المناطق العمرانيّة التّابعة للجماعات المحليّة حين يلقون كامل مسؤوليّة إنجاز الأشغال الكبرى والإصلاحات الضّروريّة في البنية التّحتيّة مثلا على كاهل الجماعة المحليّة بدعوى أنّهم في حلّ من كلّ مساهمة طالما يدفعون الضّرائب والأداءات المستوجبة سواء على مداخيلهم أو على عقاراتهم…
إنّ الحياة الجماعيّة الحضريّة تقتضي نظاما دقيقا وحاجات متزايدة لا تتحقّق إلاّ إذا حصل تضامنا مجتمعيّا للقيام بالأعباء العامّة يبدأ من الحلقة الأولى المتمثّلة في المتساكنين المالكين الأجوار. فعلى هذه القيم الخلقيّة السّامية الضّروريّة للعمران البشري، سنّ المشرّع التّونسي كنظرائه من البلاد المتحضّرة، الباب السّادس من مجلّة الجباية المحليّة حول “مساهمة المالكين الأجوار في نفقات الأشغال الأوليّة والإصلاحات الكبرى المتعلّقة بالطّرقات والأرصفة وقنوات تصريف المواد السّائلة”.
وقد ضبط المشرّع في هذا الباب النّظام القانوني لهذه المساهمة من حيث تحديد المطالبين بأدائها وطرق احتسابها واجراءات استخلاصها والاعتراض عليها رغم أنّ تنفيذه لا يزال تنفيذه واقعا في جلّ الجماعات المحليّة دون المأمول.
“مساهمة المالكين الأجوار” سمة المجتمعات المتقدّمة
حدّد المشرّع مجال مساهمة المالكين الأجوار في إنجاز مجموعة من المشاريع والإحداثات يمكن تقسيمها إلى صنفين: الصّنف الأوّل وصفه المشرّع بـ” الأشغال الأوليّة” تتعلّق بإحداثات جديدة لمرافق ضروريّة لجودة الحياة الحضريّة كمدّ الطّرقات وتعبيدها ومدّ قنوات تصريف مياه الصّرف الصّحي وتبليط الأرصفة وإقامة شبكات الإنارة العموميّة… والصّنف الثّاني، سمّاه “الإصلاحات الكبرى” وهي عبارة جامعة تتعلّق بإدخال تحسينات جوهريّة على حيّ أو منطقة سكنيّة من شأنها أن تغيّر طبيعتها وتضفي عليها قيمة مضافة عالية كأشغال تهيئة الأحياء السّكنيّة والمناطق الصّناعيّة والسّياحيّة وتوسعة الطّرقات والسّاحات العامّة وتهذيب الأحياء وبناء الأسواق العموميّة وبناء مكاتب للمصالح الإداريّة التي تسدي خدمات عموميّة ضروريّة كمكاتب البريد والضّمان الاجتماعي ومقرّات الأمن والمؤسّسات البنكيّة وربط الحيّ بشبكة المترو الخفيف وغيرها…
ولا نغالي إن قلنا إنّ مساهمة المالكين الأجوار الفعليّة سمة المجتمعات المتحضّرة التي تسودها مشاعر الثّقة في مؤسّسات الدّولة والانتماء إلى دولة عادلة.
من المطالب بدفع المساهمة؟
حدّد المشرّع بدقّة المطالبين بالمساهمة في إنجاز الأشغال الضّروريّة للحياة الجماعيّة بأعيانهم حين أطلق عليهم عبارة “المالكين الأجوار” دون غيرها من العبارات التي اعتمدها في سياق المطالبين بالأداء على العقارات المبنية كـ”شاغل” و”متسوّغ”. ويفهم من هذا التّعبير الحصري أنّ المشرّع عمّر ذمّة المالكين الأجوار فقط دون غيرهم من الشّاغلين. وتفيد لفظة “المالك”، صاحب الملكيّة الذي يمنحه القانون سلطة على ما يملكه من عقارات تمكّنه من حقّ الاستعمال والاستغلال والتّصرّف ولا عبرة بالطّرق التي انجرّت إليه الملكيّة سواء بالاستلاء أو الحوز أو الإرث أو الشّراء…
وعلى هذا الأساس، فإنّ وجه التّتبّع لاستخلاص المساهمة، تستهدف المالك الحقيقّي للعقار سواء أكان مالك الجدران أم مالك الأصل التّجاري دون غيرهم من الشّاغلين.
من يٌعفَى من دفع المساهمة؟
بالرّجوع إلى كلمات نصّ القانون الواردة في فصول مختلفة من مجلة الجباية المحليّة، يفهم أنّ مساهمة المالكين الأجوار مرتبطة بقدرتهم الماليّة أو قدرة بعضهم على الأداء. لذلك أعفى المشرّع بعض المالكين الأجوار من ذوي الدّخل المحدود، وممّن يحصل على إعانة قارّة من الدّولة أو من جماعة محليّة وذلك بصريح عبارة الفقرة الثّالثة من الفصل 53 التي تنصّ على أنّه “يقع حطّ مساهمة المالكين الأجوار كليّا من قبل الجماعة المحليّة بالنّسبة للمطالبين بالمساهمة من ذوي الدّخل المحدود المنتفعين بإعانة من الدّولة أو من الجماعة المحليّة”.
وقد سبق وأشرنا في غير هذا المقال أنّ عبارة “ذوي الدّخل المحدود” تثير إشكاليات عديدة تتعلّق بسقف هذا الدّخل أهو الأجر الأدنى الصّناعي أو الفلاحي؟ أو الدّخل الأدنى من ذلك أو أكثر؟ وهو غموض يحدّ” واقعا صعوبات تطبيقيّة لهذا الحطّ حين يكون المالك الحقيقي للعقار من ذوي الدّخل المحدود وممّن يتمتّع بإعانة عموميّة قارّة. ولكن ينتفع معه بالعقار على سبيل السّكنى الدّائمة والإقامة القارّة أقارب من ذوي الدّخل المعتبر. وأمام صعوبة إثبات ذلك، تتّجه مجالس الجماعات المحليّة إلى العمل بظاهر النّصّ، فتقر حقّ الحطّ، حين يتوفّر لديها في وثائق المطلب، ما يفيد الدّخل المحدود وتمتّعه بإعانة قارّة من الدّولة أو من جماعة عموميّة.
كيفية احتساب المساهمة
لم يترك المشرّع تحديد كلفة مساهمة المالكين الأجوار إلى السّلطة التّقديريّة للجماعة المحليّة. ولكن نصّ على ضرورة اعتماد معايير ماديّة تتعلّق بكلفة المشروع وثمن المناقصة. حيث نصّ الفصل 53 من مجلّة الجماعات المحليّة على أنّه “تضبط مساهمة المالكين الأجوار في النّفقات المشار إليها بالفصل 52 من هذه المجلّة على أساس المبلغ الجملي للأشغال كما ورد بمناقصة الأشغال وتحمّل على المالكين الأجوار أو ورثتهم عند الاقتضاء. ويكون ضبط مساهمة المالكين الأجوار في حدود مدّة الاندثار بالنّسبة للإصلاحات الكبرى”.
وعليه، تحتسب المساهمة بحسب طبيعة الإحداثات الجديدة والإصلاحات المزمع إنجازها. وفي كلّ الحالات لا يتحدّد سهم كلّ متساكن من المالكين الأجوار إلاّ بعد أن تضبط كلفة المشروع نهائيّا بعد الإعلان عن نتائج المناقصة العموميّة.
ففي حالة الأشغال الكبرى، يحتسب سهم الأجوار بالتّساوي. فيكون السّهم، هو حاصل عمليّة قسمة مبلغ كلفة المشروع الوارد بالمناقصة العموميّة على عدد المالكين الأجوار المنتفعين به مباشرة. أمّا في حالة الأشغال المتعلّقة بالطّرقات والأرصفة، فيضبط سهم كلّ مالك متجاور حسب مساحة واجهات العقارات بحساب الطّول في العرض.
ويجب التّأكيد على أنّ “ضبط مساهمة المالكين الأجوار” لا تكون إلاّ ” في حدود مدّة الاندثار بالنّسبة للإصلاحات الكبرى”. ومقتضى عبارتا هذا النّصّ أنّ المالكين الأجوار مطالبين بالمساهمة في الإصلاحات الكبرى كأشغال مدّ الطّرقات وبناء المحوّلات والسّاحة العامّة مثلا إلاّ خلال مدّة اندثار المشروع المقدّرة بعشر سنوات. وبهذا لا يمكن مطالبة المالكين الأجوار بالمساهمة سوى مرّة واحدة خلال هذه المدّة التي تمتدّ فيها حياة المشروع المنجز المقدّر اندثاره بعشريّة.
اجراءات استخلاص المساهمة
تخضع مساهمة المالكين الأجوار لإجراءات دقيقة ومترابطة ضبطها المشرّع وجعلها من متعلّقات النّظام العام بحيث يؤدّي عدم احترامها إلى البطلان. وهذه الاجراءات نلخّصها في النّقاط التّالية:
أولا، إعداد الجماعة المحليّة لتصوّر كامل للأشغال المزمع إنجازها من حيث الكلّفة والجدوى والجماليّة وخاصّة المصلحة العامّة.
ثانيا، تعمل الجماعة المحليّة على استصدار أمر حكومي يقرّر “صبغة المصلحة العامّة” في شأن هذه الإحداثات والأشغال (الفقرة 2 من الفصل52).
ثالثا، يتمّ إعلام المالكين الأجوار بمبلغ المساهمة مع ذكر آجال تقديم الاعتراضات لدى لجنة المراجعة التي يرأسها رئيس الجماعة المحليّة أو من ينوبه.
رابعا، يتمّ الإعلان عن بدء عمليّة الاستخلاص بواسطة معلّقات وإعلانات بالرّائد الرّسمي للجمهورية التّونسيّة.
خامسا، تدفع مساهمة المالكين الأجوار عن طريق تسبقة قبل بداية الأشغال تتراوح نسبتها بين 10% و30% من مبلغ المساهمة للجماعة المحليّة التي منحها القانون حريّة اختيار نسبة التّسبقة في هذه الحدود بمقتضى قرار صادر عن رئيس الجماعة المحليّة. ويقع دفع المبلغ المتبقي دون فائض على خمسة أقساط متساوية بداية من الشّهر الذي يلي تاريخ انتهاء الأشغال. ويترتّب عن عدم دفع المالكين الأجوار ما بذمّتهم من أقساط، خطيّة سنويّة تساوي 10% من مبلغ المساهمة أو القسط.
وإذا لم يتم إنجاز الأشغال خلال السّنتين المواليتين من تاريخ إصدار الأمر الحكومي الذي قرّر صبغة المصلحة العامّة لها، يتعيّن على الجماعة المحليّة إرجاع المبالغ المقبوضة بعنوان تسبقة لأصحابها المالكين الأجوار.
ولكن حماية للمالكين للأجوار وضمانا لحقّ دفاع كلّ مواطن على مصالحه، فتح المشرّع باب الاعتراض على مساهمة المالكين الأجوار عبر طريقتي التّظلّم الإداري والقضائي.
التّظلم الإداري
حين يقع إعلام المالكين الأجوار بصفة قانونيّة بمبلغ المساهمة لأوّل مرّة، يحقّ لهم قانونا تقديم اعتراضات خلال أجل ثلاثين يوما يحتسب من يوم بلوغ الإعلام بمبلغ المساهمة. وتقدّم المطالب إلى رئيس لجنة المراجعة كتابيّا مصحوبة بكلّ الوثائق المؤيّدة وتودع لدى المصالح المختصّة للجماعة المحليّة مقابل وصل تسليم أو عبر رسالة مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ.
وتبتّ اللّجنة التي يرأسها رئيس الجماعة المحليّة أو من ينوبه في الاعتراضات وتكون قرارتها بأغلبيّة أصوات الحاضرين وفي حالة تساوي الأصوات، يكون صوت رئيس البلديّة مرجّحا.
ويتوجّب على الجماعة المحليّة إبلاغ قرارات لجنّة المراجعة إلى المعنيين بالأمر في أجل شهر من صدورها.
وعلى ضوء قرارات لجنة المراجعة، يقوم قابض الماليّة محتسب الجماعة المحليّة، بإعداد “جدول تحصيل” يتضمّن أودية بأسماء المالكين وأودية مقابلة بمبالغ المساهمات المحمول عليهم أداؤها للجماعة المحليّة. وتكمن أهمية قرارات اللّجنة وفاعليتها في أنّها تكتسي صبغة تنفيذيّة بعد إمضائها من قبل رئيس الجماعة المحليّة. ممّا يجعلها تنفذ حالا ودون أن يُحدث الطّعن فيها لدى القضاء المختصّ أثرا تعليقيّا.
ويتمّ تتبّع استخلاص المساهمة بالنّسبة إلى مالكين الأجوار المدينين بمقتضى نسخة مستخرجة من هذا الجدول مؤشّر عليها من قبل قابض الماليّة محتسب الجماعة المحليّة.
التّظلّم القضائي
إذا أبدى المالكون الأجوار عدم رضاهم بمقرّرات لجنة المراجعة ورأوا حيفا في مبالغ المساهمات، يمكن المرور إلى التّظلّم القضائي وذلك بتقديم دعوى إلى المحاكم المختصّة بخصوص ضبط المساهمة خلال أجل قدره ستّون يوما من إبلاغ قرارات لجنة المراجعة.
ولا تقبل الدّعوى إلا إذا أثبت المعني بالأمر أنّه قدم اعتراضا إلى لجنة المراجعة ودفع مبلغ التّسبقة المعلومة. ويكون الحكم الصادر عن هذه المحاكم نهائيّا. وكما سبق وأشرنا فإنّه لا يترتّب عن تقديم دعوى قضائيّة أي أثر تعليقي فلا تؤدّي إلى توقيف استخلاص المعاليم المثقلة محل النزّاع.
ومهما يكن من أمر، فإنّ مساهمات المالكين الأجوار لا تتحقّق طوعيّا فتكون تعبيرا عن وعي حضاري راق إلاّ إذا توفّر شرط العدل الذي يبقى أساس العمران كما قرّر ذلك منذ قرون طويلة عبد الرّحمان ابن خلدون رائد علم العمران البشري.
د. الناصر المكني